هناك
أربع مسائل يجب تفنيدها لحل الإشكالية والشبهة التي تعتري القرآن الكريم ومدى
صلاحيته على مر الأزمان ومختلف الأمكنة ..!
وتلك
المسائل هي : أميَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلة صلاحية
القرآن الكريم لكل زمان ومكان ، وكون نزوله في بيئة جاهلية ، وكيفية استيعابه
للحركة الكونية جمعاء في كلمات وآيات محدودة ، مقارنة بما يعتري الموسوعات
العالمية الضخمة من نقص وعجز في محتواها .
إن
علة صلاحية القرآن الكريم في كل زمان ومكان ؛ مرد ذلك كون آياته تتضمن أموراً كلية
وعامة وفلسفات وقواعد ونظريات التشريع ، كما أن أكثر هذه الآيات ظني الدلالة ،
تحتمل أكثر من تفسير ، كما أنها تقبل أكثر من رأي . ( القرضاوي ، 1993 ) .
ولهذا
فإن القرآن الكريم يتسم بسعته ومرونته وخصوبته وخصائصه الذاتية ، مما جعله يحقق
المعالجة لوقائع ومشكلات متجددة على مر الأزمان ، وفي بيئات اجتماعية وحضارية
متعددة .
ونجد
القرآن الكريم قد فصَّل في بعض أحوال العبادات ؛ لأنها مما لا يتغير في الغالب ،
مثل منظومة القيم والأخلاق ، والقواعد الشرعية التي تستنبط منها الأحكام التفصيلية
، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة ، وجعل تفصيل أحكام
المعاملات لعلم الفقه ، الذي هو اجتهاد وقياس محكوم بثوابت الشريعة الإلهية ؛ ذلك
حتى يظل فقه المعاملات متطوراً دائماً وأبداً عبر الزمان والمكان ؛ ليواكب تغير
الواقع ومستجدات الأحداث ، في إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها التي تحفظ على
أحكامها المتطورة إسلاميتها .
هذه
" الصيغة الإسلامية " هي التي وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشري
للنص الإلهي الثابت ، وجمعت بين ثبات " الوضع الإلهى " وتطور "
الاجتهاد الفقهي " . ( عمارة ، 1998 )
فكل
ما جاء مبنياً على قواعد الدين فهو دين سواء نصَّ عليه الشارع نفسه ، أو استنبطه
أهل الفكر والنظر الصحيح ، ونادى القرآن بألا تُكلَّف نفس إلا وسعها ، مما جعله
أكثر الكتب ملاءمة للطباع والعادات والقوى البشرية على اختلافها . ( خورشيد ، 1970
)
وكثيراً ما نبهت الآيات القرآنية على ضرورة استخدام
الإنسان عقله وفكره وكل ما أنعم اللَّه تعالى عليه من حواس ؛ للتأمل والتبصر في
صناعة اللَّه في خلقه ، كما أنها حثت الناس على التزود بالعلم وطلبه باستمرار ؛ لاكتشاف
ما يتمثل من آيات القرآن الكريم ، ومع رقي الإنسان علماً وفكراً ومعرفةً أخذ يكتشف
المزيد من المعارف التي تشع ومضاتها من آيات القرآن العظيم . ( المرزوقي ، 2010 )
وحول
أمية النبي صلى الله عليه وسلم يقول تعالى
: } وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُون } [ العنكبوت :
48 ] ، فهذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستدلال
أيضاً على أن القرآن موحى إليه من الله ؛ حتَّى لا يرتاب الناس في نبوته ، وحتَّى
لا تتكاثر لديهم أسباب الشَّك في صدق دعوته . ( ابن عاشور ، 1984 )
وإن
من تتمة هذه الحكمة الإلهية أن تكون البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم بيئة أمية
جاهلية رعوية ، بالنسبة للأمم الأخرى التي من حولها ، فلم تكن أمة صناعية أو
زراعية ، ولم يتطرق إليها شيء من الحضارات المجاورة ، ولم تتعقد مناهجها الفكرية
بشيء من تلك الفلسفات التائهة من حولها ؛ ذلك أنَّه كان يُخشى من دخول الرِّيبة في
صدور النَّاس إذا ما رأوا النبي متعلماً ، مطلعاً على الكتب القديمة وتاريخ الأمم
البائدة ، وحضارات الدول المجاورة ، كذلك يُخشى من دخول هذه الرِّيبة في الصدور
إذا ما ظهرت الدَّعوة الإسلامية بين أمة لها شأن في الحضارة والمدنية والفلسفة والتاريخ
، كدولة الفرس أو اليُونان أو الرُّومان ؛ إذ ربَّ مرتابٍ مبطل يزعُم أنَّها سلسلة
التجارب الحضارية والأفكار الفلسفية أبدعت أخيراً هذه الحضارة الفذة والتشريع
المتكامل ؛ فكل ذلك دل على أن الهدف الأسمى أن تكون أمة دعوية ؛ لأنَّ العالم
يحتاج إلى الهُدى ؛ لذلك كانت المهمة الأولى والتاريخية لهذه الأمة هي مهمة الدعوة
، كما أن شبه الجزيرة العربية ظلت وكأنها واحة حصينة آمنة من الغزو ، إلاَّ في بعض
أطرافها ، آمنة من انتشارِ الدَّعوة الدينية ، مسيحية كانت أو مجوسيَّة ، إلا في
قليل من قبائلها ، فكانت طبائعهم أشبه ما تكون بالمادة الخام ، التي لم تنصهر بعد
في أي بوتقة مُحوَّلة ، فكانت تتراءى فيها الفطرة الإنسانيَّة السليمة ، والنَّزعة
القوية إلى الاتِّجاهات الإنسانية الحميدة ؛ كالوفاء والنجدة والكرم والإباء
والعِفَّة ، إلا أنَّه كانت تعوزهم المعرفة التي تكشف لهم الطريق إلى كل ذلك .
ولقد
أوضح القرآن الكريم هذه الحكمة بصريح العبارة حينما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين } [ الجمعة : 2 ] ، فلقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن يكون رسوله
أميّاً ، وأن يكون القوم الذين ظهر فيهم هذا الرسول أميين أيضاً في غالبيتهم
العظمى ، حتى تكون معجزة النبوة والشريعة الإسلامية واضحة في الأذهان ، لا لبس
بينها وبين الدعوات البشرية المختلفة .
المراجع
1- القرضاوي
، يوسف ( 1993 ) . شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان . ( ط 2 )
. القاهرة : دار الصحوة .
2- عمارة
، محمد ( 1998 ) . هل الإسلام هو الحل ؟ . ( ط 2 ) . القاهرة : دار
الشروق .
3- خورشيد
، عبد الله ( 1970 ) . القرآن وعلومه في مصر ( ط 1 ) . مصر : دار المعارف .
4- المرزوقي
، شيخة ( 2010 ) . أضواء : ولتعلمن نبأه بعد حين . قطر : جريدة الراية .
5- ابن
عاشور ، محمد الطاهر ( 1984 ) . تفسير التحرير والتنوير . تونس : الدار التونسية .
6- البوطي
، محمد سعيد رمضان ( 1991 ) . فقه السيرة النبوية . ( ط 10 ) . بيروت : دار الفكر
المعاصر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق