الاثنين، 22 مايو 2017

التخطيط في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ..!




المبحث الأول : التخطيط الإسلامي في الفترة المكية :
هذه المرحلة تمثل مرحلة ما قبل قيام الدولة الإسلامية ، وقد احتوت على نوعين من التخطيط ، هما : تخطيط بعيد المدى أو استراتيجي ، وتخطيط قصير المدى أو تنفيذي ، وقد تمثَّل كل منهما في هذه الفترة من خلال التخطيط للدعوة ، والتخطيط للهجرة . ( المطيري ، 2004 ، ص 85 )

1- التخطيط للدعوة :
وهو الحدث التخطيطي الأول والأساسي في التخطيط الإسلامي بشكل عام ، حيث اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم - في سبيل تبليغ رسالة الإسلام وعقيدة التوحيد ( كهدف استراتيجي عام ) - خططاً عملية مرحلية محكمة على مدى ثلاثة عشر عاماً ، تضمنت مرحلتين رئيسيتين ، هما :

أ‌-  مرحلة الدعوة سرًّا :
استغرقت هذه المرحلة ثلاث سنوات . فهي تعتبر خطة مؤقتة قصيرة المدى ، وأهم خصائص التخطيط الإسلامي في هذه المرحلة ما يلي :
1-  عرض الدعوة بشكل فردي انتقائي من مختلف الفئات والمستويات على من يثق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك تحاشياً للمعارضة الجماعية من قريش - إذ أن الدِّين الجديد آنذاك بدعة مجهولة ، ورفضها من قبل قريش أمر وارد - فدعا صلى الله عليه وسلم للإسلام من الرجال أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ذلك الرجل الوقور الحليم التاجر ذو المكانة الرفيعة في قومه ، وقد أثمر هذا الاختيار الموفق من تمكُّن أبي بكر من دعوة خمسة من السابقين في الإسلام ممن بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وهم : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنهم .
ودعا صلى الله عليه وسلم من النساء زوجته خديجة رضي الله عنها ، حيث كانت نِعْمَ النصير والمعين له في دعوته ، ودل هذا على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالتخطيط الأسري ، ممثلاً في المرأة الصالحة ؛ لما لها من دور فعال في بناء الأسرة المؤمنة ؛ وتقوية الجبهة الداخلية في المجتمع المسلم .
أما من الصبيان فقد دعا للإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ للدلالة على الاهتمام بالشباب ، وتنشئتهم تنشئة إسلامية صحيحة ؛ فهم عدة المستقبل للأمة الإسلامية .
ومن الموالي دعوته صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ؛ للدلالة على أن الدعوة الإسلامية لا تعرف العنصرية أو الطبقية والتحيز لفئة دون فئة ، بل ينبغي للتخطيط فيها أن يشمل جميع أفراد المجتمع المسلم ، وأن أساس التمايز بينهم هو التقوى والعمل الصالح .
2- محاولة رد الاعتداء عليه قدر الإمكان ، مكتفياً بحماية نفسه من الأذى ، ولا يعتدي على أحدٍ قطُّ ؛ تنفيذاً لأمر الله تعالى : ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ وَكَفَى بِاللَّـهِ وَكِيلًا . . . ﴾ [ الأحزاب : 48 ] .
3- حماية الداخلين الجدد في الإسلام من الأذى والاضطهاد .
4- تعليم الرعيل الأول القرآن الكريم وتقوية الإيمان في قلوبهم ؛ لتحمل مخاطر المرحلة القادمة .
5- الاختيار المناسب لدار الأرقم لتكون مقرًّا للاجتماعات السرِّية ، ففي هذا الاختيار إرشاد وتوجيه للمخططين المسلمين في كيفية الأخذ بالأسباب الظاهرة في حيطة تامة ، مع التوكل على الله لتحقيق أهداف الدعوة ؛ وذلك لأن الأرقم شاب صغير السنِّ لم تعلَم قريش بإسلامه ؛ ولأنه من بني مخزوم ، وهي فئة مناوئة لبني هاشم ( أهل صاحب الدعوة ) ؛ فيستبعد أن تكون الاجتماعات في بيته ؛ ولأن دار الأرقم أقرب بيت من الصفا فيسهل دخوله.
6- المرونة ، وقد تجلت في كيفية اختيار الأسلوب المناسب في الدعوة ؛ تنفيذاً لأمر الله تعالى في قوله : ﴿ ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ . . . ﴾ [ النحل : 125 ] ، وكذلك المرونة في اختيار الوقت والمكان المناسبين ، فقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يتخوَّلُنا بالموعظةِ في الأيَّامِ كراهةَ السَّآمةِ علَينا " [ صحيح ] .

ب‌-  مرحلة الجهر بالدعوة :
وقد استغرقت عشر سنوات ، فهي بمثابة خطة عشرية طويلة المدى ، وأهم خصائص التخطيط الإسلامي في هذه المرحلة تكمن فيما يلي :
1- تدرج المسؤولية في التخطيط للدعوة ؛ حيث تبدأ بمسؤولية المسلم عن نفسه ، ثم مسؤوليته عن أهله وأقربائه ، ثم مسؤوليته عن مجتمعه سواء كان ذلك الفرد المسلم من الدعاة أو من العلماء أو من الحكام أو غيرهم . حيث بدأ الرسول r بتنفيذ هذه المرحلة بشكل تدريجي حسب توجيهات الله عزَّ وجلَّ له عن طريق الوحي بإنذار عشيرته الأقربين من بني عبد المطلب وعبد مناف ، ثم الصعود على الصفا بعد ذلك وإبلاغ قريش وأهل مكة جميعاً بتلك الدعوة .
2- إقامة الحجة على أهل مكة بدعوتهم جميعاً للإسلام ، وتقدير مدى صلاحية هذا المجتمع لاستمرار الدعوة فيه .
3- تمحيص إيمان المسلمين الأوائل ، والتأكد من صدقهم مع الله ؛ فهم النواة الأولى للأمة الإسلامية فيما بعد ، حيث لاقى رسول الله  صلى الله عليه وسلم وصحابته وأتباعه - خصوصاً المستضعفين منهم - صنوف مختلفة من العذاب والإيذاء من قِبَل كفار قريش ، فكان الرسول r - وهو القائد والمخطط لهذه الفئة المؤمنة المضطهدة - يمر عليهم ويشجعهم ، ويحثهم على الصبر ، ويعدهم بتحقيق النصر والتمكين ( الهدف العاجل المرحلي ) ، أو الشهادة في سبيل الله ثم الفوز بالجنة ( الهدف الآجل ) .
4- تعويدهم على الصبر والجهاد ، وإرشاداً لمن جاء بعدهم بأهمية ذلك ، مع ضرورة الأخذ بالأسباب من أجل بلوغ الغايات والأهداف العاجلة والآجلة ، فقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كل الوسائل الممكنة لإقناع قريش بقبول دعوته ، فلما لم يلق استجابة منهم ، بل اشتد أذاهم له بالسخرية والاستهزاء تارة ، وبالإغراء تارة أخرى ، قال مقولته المشهورة الدالة على عزمه وتصميمه في إبلاغ الرسالة الإسلامية والاستمرار في الدعوة إلى الله ، حيث قال : " يا عَمِّ ! و اللهِ لو وضَعُوا الشمسَ في يَمينِي ، والقَمَرَ في يَسارِي ، على أنْ أترُكَ هذا الأَمرَ حتى يُظهِرَهُ اللهُ أوْ أهلِكَ فيه ، ما تَركْتُهُ " [ ضعيف ] .
5- إتاحة الفرصة لدخول آخرين من غير أهالي مكة في الإسلام ؛ مما يقوي شوكة المسلمين ، وهو ما يدل على عالمية هذا الدِّين ، فبعد أن لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل صنوف العنت والإيذاء والإعراض من أهل مكة ، ذهب إلى أهل الطائف يعرض عليهم الإسلام ، فآذوه أكثر حيث سلطوا عليه غلمانهم وسفهاءهم ، ولم يثنه فعلهم ذلك عن المضي قدماً ، والاستمرار في الدعوة في المواسم المختلفة ؛ لعله يجد قوماً آخرين وأرضاً أخرى تكون أكثر ملاءمة لدعوته .
6- إعلام أعداء الإسلام بقيمة العقيدة الإسلامية في قلوب المسلمين ، وأن الإيذاء أو التعذيب لا يزيدهم إلا ثباتاً وتضحية في سبيل تحقيق الأهداف الشرعية .

2- التخطيط للهجرة :
 وهو الحدث الثاني المهم في التخطيط الإسلامي ، حيث كانت الهجرة إلى الحبشة وبيعتا العقبة بمثابة تخطيط قصير المدى للهجرة النبوية إلى المدينة التي تعتبر تخطيطاً استراتيجياً طويل المدى .
أ‌-  الهجرة إلى الحبشة :
ومن أهم خصائص التخطيط الإسلامي لهذه الهجرة ما يلي :
1-    أن لهذه الهجرة تأثير نفسي إيجابي على بعض الأفراد من قريش نحو الإسلام ، حينما رأوا أولئك النفر رجالاً ونساءً يضحون بأهلهم وأموالهم وأرضهم في سبيل الله ، حيث بلغ عدد المهاجرين إليها ثلاثة وثمانون رجلاً إضافة إلى أهليهم ؛ وقد يكون هدف الرسول صلى الله عليه وسلم سياسياً ، ألا وهو تأليب الرأي العام العالمي ضد كفار قريش ، وكسب أكبر قدر ممكن من تعاطف الأمم الأخرى لقضية المسلمين .
2-     أن هذه الهجرة كانت ضرباً من الجهاد والدعوة إلى الله ، وتبليغ زعماء الأمم الأخرى عن الإسلام ، ودعوتهم إليه فضلاً عن حماية أتباعه من جحيم الاضطهاد والإرهاب الذي كانت تمارسه قريش ضدهم ؛ حيث وصل الإسلام لأرض الحبشة من خلال وصول المهاجرين إليها واستقرارهم بها آمنين مطمئنين ، فأسلم ملكها ( النجاشي ) ، وكثير من أهلها .
3-     أنها كانت خطة مرحلية مؤقتة لهجرة المدينة المنورة الأكبر والدائمة ؛ لإقامة الدولة الإسلامية فيها ، فبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جهز النجاشي سفينتين حملت المسلمين ومن أسلم من أهل الحبشة في رحلة العودة إلى المدينة .
4-     أنها كانت دليلاً قاطعاً على دقة تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد نظره ؛ للحفاظ على مستقبل الإسلام ؛ فلقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الهجرة لما اشتد أذى المشركين في مكة للمسلمين ، وعلمه بأن النجاشي ( ملك الحبشة ) ملك عادل ، لا يظلم عنده أحد ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : " إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده ، فالْحقوا ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه "     [ جيد ] .
5-     أنها أظهرت مهارة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومعرفته بالبيئة السياسية المحيطة ، وهو عنصر مهم في التخطيط الإسلامي .


ب‌- بيعتا العقبة :
أهم خصائص التخطيط الإسلامي لبيعتي العقبة الأولى والثانية ما يلي :
1-    العزم الذي أبداه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتحمله لمشقة الدعوة ، وبذل الأسباب الممكنة في عرض دعوته على القبائل جميعاً في مواسم الحج بعد أن رفضها أهل مكة والطائف ، حتى هيأ الله له وفداً من يثرب قوامها اثنا عشر رجلاً ، ودعاهم إلى الإسلام ، فقبلوا دعوته وأسلموا ، فتمَّت بيعة العقبة الأولى ، ويمكن تسميتها ب( بيعة التوحيد ) ؛ لأنهم بايعوه على أن يؤمنوا بالله وحده وبنبوّته ، وعاهدوه على أن يحلّوا الحلال ويحرّموا الحرام بين قومهم إذا رجعوا إليهم .
2-    التمهيد للهجرة النبوية للمدينة المنورة والتهيئة لها ، بإرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه ؛ لتعليم أهلها القرآن الكريم ، وتفقيههم في الدين ، وليجمع له الأخبار والمعلومات عن الناس والأرض ؛ ومدى صلاحيتها لإقامة الدولة الإسلامية .
3-    اتضاح التخطيط السياسي والأمني وقوة التفاوض عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث التقى من العام التالي وفداً أكبر من يثرب ، كان عددهم هذه المرة بضعاً وسبعين ، وحدث ذلك بعد اتصالات سرّية في أحد شعاب مكة في منى ليلاً ، وقد أخذت نفس منوال البيعة الأولى ونفس الالتزامات ، إلا أنهم أضافوا إليها العهد بمؤازرته ومناصرته والقتال دونه متى ما وصل إلى المدينة ، فتمَّت بيعة العقبة الثانية ، وسمّيت ب ( البيعة السياسية ) .
4-    العمل على تكوين أول مجلس شورى إسلامي رسمي ، وذلك من خلال طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الوفد اثني عشر نقيباً ( أي ضامنين لإسلام قومهم ومناصرتهم له ) ، والتي مهدت السبيل للهجرة النبوية ، ومن ثم إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة .

ج- الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة : ( المزجاجي ، 2000 ، ص 148 )
على إثر بيعة العقبة الثانية أذن الرسول صلى الله عليه وسلم  للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة ، ولم يبق في مكة إلا هو صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي وبعض المستضعفين ممن لا يستطيع الهجرة ، ولما علمت قريش بذلك خططت لمقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أوحى إليه بذلك وأمره بالهجرة ، وتنفيذاً لأمر الله تعالى وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة محكمة متكاملة اشتملت على عناصر التخطيط الإسلامي كما يلي :
1-  السرية البالغة ، حيث كتم الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة عن أصحابه ، إلا أبي بكر وعلي رضي الله عنهما ،  فقد أخبرهما قبل تنفيذ الخطة مباشرة . وأسند أمر المبيت في فراشة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حيث أعطاه بردته ليتسجَّى بها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .
2-  بذل الأسباب المادية والمعنوية اللازمة لتنفيذ خطة الهجرة على أسس عملية دقيقة عن طريق :
·       تحديد الاحتياجات الأساسية والضرورية للرحلة الطويلة ، كالمال ووسائل النقل ومؤونة الطريق والأعوان .
·       السماح لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بمرافقته في الهجرة .
·       الخروج من بيته بحفظ الله تعالى وحمايته رغماً عن أنف محاصريه من كفار قريش .
·       اتِّباعه خط سير مخالف لما كان يتوقعه الأعداء الذين جدُّوا في طلبه في الطريق الشمالي ، بينما هو سلك الطريق الجنوبي المتجه نحو اليمن حتى بلغ جبل ثور ، ثم توجه بعدئذ إلى الشمال .
·       لجأ إلى غار ثور للاستراحة من متاعب المشي الطويل ، وحماية نفسه وصاحبه أبي بكر.
·       البقاء في الغار ثلاث ليالٍ حتى ينقطع الطلب عنهم .
·       الارتباط بالله عز وجل والتوكل عليه ؛ وذلك عند طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار عندما تخوَّف من رؤية المشركين لهم ، بقوله : " ما ظنُّك باثنَينِ اللهُ ثالثُهما " [ صحيح ] .
·       تخصيص عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه ليكون وسط قريش بمكة المكرمة في النهار ، وليوافيه مساءً بالمعلومات المهمة عن الوضع .
·       تخصيص أسماء بنت أبي بكر ( ذات النطاقين ) رضي الله عنها بإحضار ما تيسر من الطعام إليهما ، فتأتي مع أخيها في المساء .
·       تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما برعي الأغنام حول مدخل الغار ؛ لمحو آثار من يمدهم بالغذاء والمعلومات .
·       الاتفاق مع عبدالله بن أريقط الليثي لإحضار راحلتين ، ويكون دليلاً لهما في رحلتهما ، حتى يصلا إلى المدينة المنورة .
·       وصوله إلى قُبَاء ، حيث أقام بها أربعة أيام ، وأسس خلالها مسجد قُبَاء وصلى فيه .
·       السير بأمر من الله إلى يثرب ، والتي سمَّاها بعد نزوله بها بالمدينة .

المبحث الثاني : التخطيط الإسلامي في الفترة المدنية :
وهي مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية ، فقد استطاعت الدولة الإسلامية الفتية مع بداية هذه الفترة أن تضع التخطيط الشامل للدولة من خلال التخطيط السياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي والعمراني والعسكري ؛ نتيجة توافر كل مقومات الدولة بمفهومها المعاصر ، حيث الأرض المتمثلة في المدينة المنورة ، والشعب المتمثل في المهاجرين والأنصار والطوائف الأخرى كاليهود ، والتنظيم السياسي والإداري المتمثل في التشريع الإسلامي القائم على الكتاب والسنة ، ووجود السلطة المتمثلة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للدولة الإسلامية .


وفيما يلي سنذكر أهم خصائص التخطيط الإسلامي بجوانبه المتعددة في هذه الفترة :


أ‌-  أهم خصائص التخطيط السياسي والاجتماعي الإسلامي في الفترة المدنية :          ( المطيري ، 2004 ، ص 96 )
1-   وَضْعُ وثيقة المدينة أو صحيفة المدينة ، والتي أُطلِق عليها " دستور المدينة " ، وما تضمَّنته من أمور سياسية وإدارية واجتماعية متكاملة لحكم الدولة الإسلامية الناشئة في تلك الفترة ، جاءت في إحدى وخمسين بنداً . ووفقاً لما جاء فيها فإنه يمكن حصرها على النحو التالي :
·     البندين ( 1 – 2 ) من الوثيقة تضمَّنا التعريف بالشخصية المستقلة للأمة الإسلامية ، والتي تميزها عن غيرها من الأمم .
·     البنود ( 3 – 11 ) تضمَّنت الحكم الذاتي ، ونوع الحرية السياسية للفئات المختلفة في إطار الدولة الإسلامية الشاملة .
·     البنود ( 12 – 28 )  حددت العلاقات الاجتماعية بين الطوائف المختلفة .
·            البندين ( 25 – 45 ) وضَّحا مصادر التشريع والحكم والقضاء في الدولة الإسلامية ، وأن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم .
·     أما بقية البنود فمنها ما يتعلق بالإبقاء على الأعراف السابقة ، الخاصة بالدِّيَّات وافتداء الأسرى والقصاص ، وعلاقة الأُمة الإسلامية بالأمم الأخرى المجاورة .
2-   الدلالة على عدل الإسلام وسماحته ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم .
3-   الدلالة على كفاءة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحنكته السياسية والإدارية كأعلى سلطة في الدولة الإسلامية ؛ وذلك بنجاح تخطيطه في جعل أهل المدينة وحدة واحدة ، عن طريق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وجعل العقيدة هي الرابط الأساسي بينهم . كما أنه حيَّد موقف اليهود مؤقتاً بعد أن كانوا مصدر قلاقل وفتنة وزعزعة لأمن أهالي تلك البلدة من الأنصار .


ب‌- أهم خصائص التخطيط التربوي الإسلامي في الفترة المدنية : ( الآنسي ، 2005 ، ص 288 )
يقول تعالى : ﴿ يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ المجادلة : 11 ] ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا ، سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ " [ صحيح ] ، حيث اهتمت الإدارة الإسلامية بالتربية ؛ وهدفها في ذلك بناء شخصية الفرد المسلم ؛ ليكون مؤهلاً لتلقي التعليم والثقافة ، قادراً على الفهم والاستجابة ؛ متمكناً من تشرب حضارة أمته وفهمها والتمسك بها .
ومن أبرز خصائص الإدارة الإسلامية للتخطيط التربوي في الفترة المدنية ما يلي :
1-      الاهتمام بتعليم الفرد وتربيته وثقافته .
2-      الاهتمام بتعليم الفرد في مختلف مراحل العمر .
3-      انتشار الثقافة الإسلامية عبر مؤسسة الدولة المركزية / المسجد .
4-      الاهتمام بتعليم المرأة وتثقيفها .
5-      احترام عقل الإنسان وتنميته بالسؤال والحوار .
6-      امتزاج العلم بالعقيدة لضمان النفع .
7-      ارتباط العلم بحاجات البشر ومنافعهم .
8-      إيجاد التوازن بين الروح والعقل والجسد .
9-      التعرف على الفروق الفردية ومراعاتها .
10-     الاهتمام بالجوانب العملية والتطبيقية في العمل .
11-     الاهتمام بالدين والدنيا معاً .


ج‌-   أهم خصائص التخطيط الاقتصادي الإسلامي في الفترة المدنية : ( المزجاجي ، 2000 ، ص 155 )
§   وضع قواعد ثابتة لاقتصاد الأمة الإسلامية من خلال ما يلي :
·       تحريم الربا والقمار والغش في البيع والشراء والاحتكار .
·       محاربة كل أنواع الممارسات الاقتصادية غير المشروعة ، كنوادي الرقص وبيع الخمور وغيرها .
·       تحقيق الإشباعات الروحية والمادية على السواء لكل أفراد المجتمع المسلم ، وبشكل متوازن بهدف تحقيق الأمن والرخاء .
·       حصر الموارد المالية للدولة الإسلامية من خلال إيرادات الزكاة والصدقات والهبات وخُمس الغنائم والمعادن والركاز والمستخرج من البحار والفيء سواء أكان خراجاً أو جزية أو عشوراً والأراضي الزراعية والصناعات والأعمال الأخرى .
·       حصر النفقات للدولة الإسلامية من خلال مصاريف الصدقات ( الزكاة ) ، والمصاريف العسكرية سواء أكانت مدنية للأمن الداخلي أو حربية للدفاع من العدوان الخارجي ، ونفقات الخدمات العامة كالتعليم والصحة والطرق ونحوها ، ومصاريف للنشاطات الإسلامية كالمساجد وتأمين الأئمة ومحاربة البدع والدعوة إلى الله ، ومصاريف الأجهزة الحكومية للدولة من مرتبات وأجور وتجهيزات وصيانة وإنشاءات ونحوها ، ونفقات تمويل النشاطات الاستثمارية للدولة كالأعمال التجارية وثروات الأمة في باطن الأرض أو أعماق البحار أو الأنهار والغابات ونحوها .


د‌- أهم خصائص التخطيط العمراني الإسلامي في الفترة المدنية : ( المطيري ، 2004 ، ص 95 )
1-   البناء الحسي للمساجد والدُّور والمساكن عن طريق :
·       بناء مسجد قُبَاء عند بني عمرو بن عوف ، كأول مسجد أسس على التقوى ، وقد ساهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بنائه مع أصحابه ، وصلى فيه ، ثم مكث بضعة عشر يوماً عند ذلك الحي من الأنصار .
·       بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المكان الذي بركت فيه ناقته القصواء ، بعدما اشترى تلك البقعة من الغلامين اليتيمين اللَّذَين يملكانها ، واشترك هو وصحابته أيضاً في بنائه حتى اكتمل .
·       بناء بيوت أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم حول المسجد النبوي ، كما اختص أهل الصُّفَّة من فقراء المهاجرين من الصحابة ، ببناء خاص خَطَّطَ له بناحية من المسجد .
·       بناء دُور ومنازل المهاجرين من الصحابة من أهل مكة .
·       بناء منازل القبائل المهاجرة إلى المدينة ، كقبيلة قيس وتميم وقضاعة وبني بكر وبني المصطلق .
2-   البناء المعنوي لعمار المساجد والدُّور والمساكن ، وذلك من خلال :
·       جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد ملتقى للمسلمين ، يؤدون فيه الصلوات المفروضة ، ويتعلمون فيه القرآن والسنة .
·       اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد داراً للشورى ، ومقراً لاستقبال الرسل ووفود القبائل .
·       جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد محكمة للقضاء والفصل بين المتخاصمين والمتنازعين .
·       اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد مقراً لقيادة الجيش الإسلامي ، تخرج منه الغزوات والسَّرَايا .


هـ- أهم خصائص التخطيط العسكري الإسلامي في الفترة المدنية : ( المزجاجي ، 2000 ، ص 150 )
1-   تأصيل عظمة الجهاد في قلب كل مسلم ، بالحث عليه وإبراز منزلة المجاهدين في سبيل الله في الدنيا والآخرة .
2-   إفهام الأعداء بأن فترة المهادنة والاستسلام ولَّت إلى غير رجعة ، وأن أي اعتداء سوف يواجه رداً أعنف مما يتوقعونه .
3-   تعويد الجميع على الحذر الشديد والاستعداد الدائم للدفاع عن الدين وأمته ؛ وهذا ما أدى إلى الاستطلاع المستمر عن تحركات الأعداء ، مما دفع المسلمين إلى مباغتة العدو بقوة وحزم في عدة سرايا بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لإبراز قوتهم على الساحة العسكرية ؛ فكان ذلك التخطيط كله تمهيداَ واستعداداَ للغزوات الكبرى كبدر وأحد ثم الخندق وغيرها فيما بعد .
4-   تهديد تجارة قريش التي صادرت أموال المهاجرين ، واستولت عليها ظلماً وعدواناً ؛ وذلك لإيجاد مصدر مالي ، يسهم في تنمية اقتصاد الدولة الإسلامية الوليدة .
5-   عقد التحالفات أو المواعدة مع القبائل ؛ لضمان حيادها أو تعاونها عند المواجهة الكبرى مع قريش .
6-   تحقيق أعلى درجات الانضباط العسكري في صفوف المجاهدين المسلمين ، والقدرة على التحكم في توجيههم ، وفقاً لأهداف الخطة العسكرية دون حدوث أي تردد أو استفسار . الشورى الإيمانية ، وذلك بمشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من المهاجرين والأنصار حول لقاء المشركين .
7-   التحري والدقة في جمع البيانات والمعلومات اللازمة , حيث استطلع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بداية إحدى معاركه خبر الأعداء وعددهم وعدتهم , فلما تبين أنهم ينحرون ما بين عشرة وتسعة من الإبل في كل يوم والذي يليه ، قدَر عددهم فيما بين التسع مئة والألف .                            
8-   بذل الأسباب المادية حسب الإمكانات المتاحة , وذلك باستخدام الموارد البشرية والمادية المتوافرة , حيث كان عدد المسلمين أكثر بقليل من ثلاث مئة ، ومعهم فَرَسَان ، وسبعون بعيراً فقط .
9-   اتخاذ المواقع للجيش أثناء المعركة ، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسِّم وحدات الجيش إلى مقدمة ومؤخرة وميمنة وميسرة وقلب ، كما عمل بذلك من بَعْدِه الخلفاء الراشدون ، ولقد أثبتت هذه الخطط نجاحاً ملحوظاً في خوض غمار المعارك ببسالةٍ وتفوق ، وإن مخالفتها قد أثبتت النتيجة السلبية وهي خسران المعركة مثل ما حدث تماماً في معركة أحد .
10-     إعطاء الصلاة وضعاً خاصاً في الخطط العسكرية ؛ وذلك بتأدية صلاة الخوف ، وهي فريق يصلي والآخر يحرس ، ثم يعود المصلي ليحرس والحارس ليصلي مع الإمام في آن واحد.
11-     ترسيخ الجانب العقدي والإيماني في النفوس بالالتزام بتقوى الله عزَّ وجلَّ والتوكل عليه , وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل نشوب معركة بدر ، حيث ظل قائماَ يصلي ويدعو ويتضرع إلى الله عزَّ وجلَّ ، بإنجاز وعده ونصره على الأعداء ، حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من حالته تلك ، فكانت نتيجة تلك المعركة النصر الباهر للمسلمين على الرغم من قلة عددهم وعدَّتهم , وسقط قادة الكفر من صناديد قريش – الذين كانوا يضطهدون المسلمين - صرعى في أرض المعركة ، كما تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المعركة , وكما وعد هؤلاء المسلمين المستضعفين عندما كانوا يعذبون أثناء الفترة المكية .

§     ومن المقومات التي يجب توافرها لتحقيق سلامة هذه الخطط العسكرية ، والوصول إلى النصر ما يلي : ( البنا ، 1985 ، ص 103 )
1-       المشاركة بين القائد وجنوده في وضع الخطة ( ويقصد بذلك الشورى ) .
2-       أن يتم تنفيذ الخطة وسط علاقات حسنة بين القائد وجنوده .

3-       أن تكون الروح القتالية أو المعنوية للجيش عالية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق